هذه الطبعة الثالثة من "فقه اللغة وسرُّ
العربية" لأبي منصور الثعالبي، نرجو أن نكون قد حققنا فيها رغبات أهل العلم
باللغة والأدب من عناية بتصحيح متون القسم الأول (فقه اللغة)، ومن نسبة
الشواهد إلى قائليها في القسم الثاني: (سر العربية).
ونحن
نشكر هؤلاء السادة المخلصين من العلماء والقراء الذين نبهونا على مافي هذا
الكتاب بقسميه من مآخذ وأخطاء مطبعية وغير مطبعية، تلافينا جلَّها في هذه
الطبعة بحمد الله.وكان
أوفر الأصدقاء سهما في بيان الأخطاء، والمآخذ، وأجدرهم بشكرنا وثنائنا
صديقنا الأستاذ اللغوي الثبت "علي السباعي"، وقد كان أستاذ النحو في كلية
"دار العلوم"، ثم كانت له رحلة إلى المملكة العربية السعودية، إذ ندب إليه
تدريس النحو وفقه اللغة بكلية الشريعة بمكة المكرمة. وكان من المقرر أن
يدرسه الطلاب، كتاب سر العربية للثعالبي، وهو القسم الثاني من هذا الكتاب.وقد
راح الأستاذ السباعي يجول في مكتبات مكة، باحثا عن مخطوطات من كتاب (فقه
اللغة وسر العربية) ليعارض به النسخ المطبوعة من هذا الكتاب، وقد عثر على
نسخة منه جيدة الخط والضبط، بمكتبة الحرم المكي، وأخذ يعارض مطبوعتنا (سر
العربية) بالمخطوطة المكية، وكلما وجد خلافا بينهما دوَّنه في النسخة
المطبوعة ثم جمع تلك الفوائد كلها وأهداها إلينا لنضع الصواب في طبعة حديثة
من مطبوعاتنا.ونحن
نشكر الأستاذ السباعي شكرا جزيلا على هذا التعاون العلمي الجدير بالثناء
والتقدير.
وفي
دار الكتب المصرية (بالمكتبة التيمورية نسختان خطيتان من هذا الكتاب
مقيدتان برقمي (145، 146 لغة). أولاهما كاملة جيدة الخط وبالأخرى خرم كبير
سقط فيه بعض الأبواب الأخيرة من القسم الأول، ولا تخلو النسختان من أخطاء
بقلم الناسخ، وكنا نرجع إليهما أحيانا ولكن لا نعوِّل عليهما دائما.
وبعد
هذه المحاولات كلها إننا نرجو ممن يقرؤون كتاب فقه اللغة وسر العربية في
هذه الطبعة الثالثة المنقحة المعنيِّ بها إذا وجد فيها ما يستحق النقد أن
يعاوننا على تلافيه في المستقبل في طبعة أحدث.
وما
توفيقنا إلا باللهأبو
منصور الثعالبي: مؤلف الكتاب (350-430 هـ)
المراجع التي استمددنا منها هذه الترجمة هي:
(1)
ترجمة الثعالبي في كتابيه: "سحر البلاغة"، و"يتيمة الدهر"، المطبوعتين
حديثا.
(2)
"دمية القصر" للباخرزي.
(3)
"زهر الآداب" للحصري.
(4)
"معاهد التنصيص" للعباسي.
(5)
"نزهة الألبا في طبقات الأدبا" لإبن الأنباري.
(6)
"الوافي بالوفيات" للصفدي.
(7)
"وفيات الأعيان" لإبن خلكان.
اسمه
وشيء عنه:
هو
عبد الملك بن محمد بن اسماعيل، أبو منصور الثعالبي النيسابوري، لقب
بالثعالبي لأنه كان فرَّاء يخيط جلود الثعالب ويعملها، وإذا عرفنا أنه كان
يؤدِّب الصِّبيان في كُتَّاب استطعنا أن نقول جازمين أن عمل الجلود لم يكن
صناعة يعيش بها، ويحيا لأجلها،بل كانت من العمال التي يعالجها المؤدِّبون
في الكتاتيب وهم يقومون بالتأديب والتعليم،وما أشبه هذا الحال بحال مؤدبي
الصِّبيان في مكاتب القرية المصرية في عهد مضى، وقد شدَّ كل منهم خيوط
الصوف إلى رقبته والمغزل في يده.
وعاش
الثعالبي بنيسابور، وكان هو ووالد الباخرزي صِنوَين لَصيقَي دار، وقريني
جوار، تدور بينهما كتب الإخوانيات، ويتعارضان قصائد المجاوبات. ونشأ
الباخرزي في حجر الثعالبي، وتأدب بأدبه، واهتدى بهديه، وكان له أبا ثانيا،
يحدوه بعطفه، ويحنو عليه ويرأف به. ذكر تلك الصلة الباخرزي، ونقل عن
الثعالبي فيما نقل عنه في كتابه "دمية القصر" أشعارا له رواها أبوه عنه إلا
أنه لم يذكر لنا شيئا مما جرى بين الشيخين الصديقين.
وكان
الثعالبي واعية كثير الحفظ، فعرف بحافظ نيسابور، وأوتي حظا من البيان بزَّ
فيه أقرانه، فلقب بجاحظ زمانه، وعاش بنيسابور حجَّة فيما يروي، ثقة فيما
يحدِّث، مكينا في علمه، ضليعا في فنه، فقصد إليه القاصدون، يضربون إليه
آباط الإبل، بعد أن سار ذكره في الآفاق سير المثل.
ونحن
نقتطف هنا جُمَلا نعته بها أعلام الأدب وأصحاب التواليف السائرة.
قال
ابن بسام:
"كان
في وقته راعي تلعات العلم، وجامع أشتات النثر والنظم، رأس المؤلفين في
زمانه، والمصنفين بحكم أقرانه، طلعت دواوينه في المشارق والمغارب، طلوع
النجم في الغياهب، وتآليفه أشهر مواضع، وأبهر مطالع، وأكثر من أن يستوفيها
حدٌّ أو وصف، أو يوفي حقوقها نظم أو رصف".
وقال
الباخرزي:
"هو
جاحظ نيسابور، وزبدة الأحقاب والدهور، لم تر العيون مثله، ولا أنكرت
الأعيان فضله، وكيف ينكر وهو المزن يحمد بكل لسان، وكيف يستر وهو الشمس لا
تخفى بكل مكان".
وقال
الصفدي:
"كان
يلقب بجاحظ زمانه، وتصانيفه الأدبية كثيرة إلى الغاية".
وقال
ابن الأنباري في نزهة الألبا:
"وأما
أبو منصور عبد الملك بن محمد بن اسماعيل الثعالبي فإنه كان أديبا فاضلا،
فصيحا بليغا".
وقال
الحصري في كتابه زهر الآداب:
"وأبو
منصور هذا يعيش إلى وقتنا هذا، وهو فريد دهره، وقريع عصره، ونسيج وحده،
وله مصنفات في العلم والأدب، نشهد له بأعلى الرتب".
وفيه
يقول أبو الفتح علي بن محمد البستي:
قلبي
رهَينٌ بنسابور عند أخٍ * ما مثله حين تَستَقري البلاد أخُ
له
صحائف أخلاق مهذبةٍ * من الحِجا والعلا والظرف تُنتَسَخُ
وقال
ابن قلاقِس يُطري كتابه "يتيمة الدهر" أشعارا منها:
كُتْبُ
القَر يضِ لآلي * نُظِمَتْ على جِيدِ الوجودْ
فَضلُ
اليتيمة بينها * فضل اليتيمة في العقودْ
ومنها:
أبيات
أشعار اليتيمة * أبيات أفكار قديمةْ
ماتوا
وعاشت بعدهم * فلذاك سميت اليتيمةْ
وكتب
أبو يعقوب صاحب كتاب البلاغة واللغة، يقرظ كتاب "سحر البلاغة" للثعالبي:
سَحَرتَ
الناس في تأليف "سحرك" * فجاء قلادةً في جيد دهركْ
وكم
لك من معانٍ في معان * شواهد عند ما تعلو بقدركْ
وُقِيتَ
نوائب الدنيا جميعاً * فأنت اليوم حافظ أهل عصركْ
ورثاه
الحاكم أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد النيسابوري فقال:
كان
أبو منصور الثعلبي * أبرع في الآداب من ثعلبِ
ليت
الردى قدَّمني قبله * لكنه أروغ من ثعلبِ
يطعن
من شاء من الناس بالـــ * ــــموت [بالموت] كطعن الرمح بالثعلبِهذه
طائفة من القول تدلك على مكانة الثعالبي عند المتقدمين، نجتزئ بها، ونقف
عندها. ثم لعل في هذه الطُّرفة التي جرت بينه وبين سهل بن المرزبان ما
يعطيك صورة عن الثعالبي شاعرا:
قال
الثعالبي: قال لي سهل بن المرزبان يوما: إن من الشعراء من شَلْشَل، ومنهم
من سَلْسَل، ومنهم من قَلْقَل، ومنهم من بَلْبَل {يريد بمن شلشل: الأعشى في
قوله:
وقد
أروح إلى الحانوت يتبعني * شاوٍ مِشَلٌ شَلولٌ شُلْشُلٌ شَوِلُ
وبمن
سلسل: مسلم بن الوليد في قوله:
سُلَّتْ
وسُلَّتْ ثم سُلَّ سَليلها * فأتى سَليلُ سَليلها مَسْلولا
وبمن
قلقل: المتنبي في قوله:
فقَلْقَلْتُ
بالهمِّ الذي قَلْقَل الحَشا * قَلاقل عيسٍ كلهن قَلاقِلُ}
فقال
الثعالبي: إني أخاف أن أكون رابع الشعراء { أراد قول الشاعر:
الشعراء
فاعلمنَّ أربعة * فشاعر يجري ولا يُجرى معه
وشاعر
من حقه أن ترفعه * وشاعر من حقه أن تسمعه
وشاعر
من حقه أن تصفعه}ثم
إني قلت بعد ذلك بحين:
وإذا
البلابل أفصحت بلغاتها * فانفِ البلابل باحتساء بَلابِلِ
فكان
بهذا رابع فحول ثلاثة لهم القدم الثابتة في الشعر، نعني الأعشى، ومسلم بن
الوليد، والمتنبي:
وما
دمنا قد عرضنا للثعالبي الشاعر فما أولانا أن نذكر جملا مختارة من شعره،
قال رحمه الله، وكتب بها إلى الأمير أبي الفضل الميكالي:لك في المفاخر معجزات جمَّة * أبدا لغيرك في
الورى لم تُجمَعِ
بحران بحر
في البلاغة شابه * شعر الوليد وحسن لفظ الأصمعي
وتَرَسُّل الصابي يزين عُلوَّه * خط بن مقلة ذو المقام
الأرفعِ
كالنور أو
كالسحر أو كالبدر أو * كالوشي في برد عليه موشَّعِ
وإذا تَفَتَقَ نورُ شِعرك ناضِراً * فالحسن بين مصرَّعٍ
ومُرَصَعِ